الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
ويجوز أن يكون {أحدهما} فاعلاً وقوله: {أو كلاهما} عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن، وقرأ أبو عمرو {أفِّ} بكسر الفاء وترك التنوين، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى {أفٍّ} بالكسر والتنوين، وقرأ ابن كثير وابن عامر {أفَّ} بفتح الفاء، وقرأ أبو السمال {أفٌّ} بضم الفاء، وقرأ ابن عباس {أف} خفيفة، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية، وفيها لغات لم يقرأ بها {أف} بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة، {وأفّاً} بالنصب والتنوين {وأفي} بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير، {وأفاً} بألف بعد الفتحة، {وأفّْ} بسكون الفاء المشددة {وأَف} مثل رب، ومن العرب من يميل {أفاً}، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول {أفاه}.قال القاضي أبو محمد: ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعل المذكور، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون، فلم ترد هذه في نفسها، وإنما هي مثال الأعظم منها، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن، والألف وسخ الأظفار، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله: {ولا تقل لهما أف} معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما. وتقول {أف}.قال القاضي أبو محمد: والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه، وقال أبو الهدَّاج النجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: {وقل لهما قولاً كريماً} ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ، وقوله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر {الذل} هنا ولم يذكر في قوله: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} [الشعراء: 215] وذلك بحسب عظم الحق هنا، وقرأ الجمهور {الذُّل} بضم الذال، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير {الذِل} بكسر الذال، ورويت عن عاصم بن أبي النجود، و{الذل} في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أبعده الله وأسحقه» قالوا من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له» وقوله: {من الرحمة}، {من} هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً، ويصح أن يكون لابتداء الغاية، ثم أمر الله عبادة بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقاً لهما وحناناً عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ، وليس هذا موضع نسخ، وقوله: {ربكم أعلم بما في نفوسكم} أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك، ويجعلون ظاهر برهما رياء، ثم وعد في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله، واختلفت عبارة الناس في {الأوابين}، فقالت فرقة هم المصلحون، وقال ابن عباس: هم المسبحون، وقال أيضاً: هم المطيعون المحسنون، وقال ابن المنكدر: هم الذين يصلون العشاء والمغرب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال: «تلك صلاة الأوابين»، وقيل غير هذا من المستغفرين ونحوه، وقال عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى، وحقيقة اللفظة أنه من آب يؤوب إذا رجع، وهؤلاء كلهم لهم رجوع أبداً إلى طاعة الله تعالى، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح، قال ابن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، وفسر الجمهور {الأوابين} بالرجاعين إلى الخير، وقال ابن جبير: أراد بقوله غفوراً للأوابين الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه، وهو لم يصر عليها بقلبه ولا علمها الله من نفسه، وقالت فرقة خفض الجناح هو ألا يمتنع من شيء يريدانه.
ومنه البصر الحسير وهو الكال، وقال ابن جريج وغيره في معنى هذه الآية، لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق، ولا تبسطها كل البسط فيما نهيتك عنه، وقال قتادة: التبذير النفقة في معصيه الله، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيراً، ولو أنفق مداً في باطل تبذيراً.قال القاضي أبو محمد: وهذا فيه نظر، ولا بعض البسط لم يبح فيما نهى عنه. ولا يقال في المعصية ولا تبذر، وإنما يقال ولا تنفق ولو باقتصاد وقوام، ولله در ابن عباس وابن مسعود فإنهما قالا: التبذير الإنفاق وفي غير حق، فهذه عبارة تعم المعصية والسرف في المباح، وإنما نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولاً من سؤال المؤمنين لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له أو لئلا يضيع المنفق عيالاً ونحوه، ومن كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفاً إلا ومعه حق مضيع، وهذه من آيات فقه الحال، ولا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس، وقوله: {إن ربك يبسط} الآية، والمعنى كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام ولا يهمنك فقر من تراه كذلك فإنه بمرأى من الله ومسمع وبمشيئة، {ويقدر} معناه ويضيف، وقوله تعالى: {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى، وقال بعض المفسرين وحكاه الطبري: إن الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر، وكانت إذا شبعت طغت وقتلت غيرها وأغارت، وإذا كان الجوع والقحط شغلهم.
قال الزجاج يقال خطئ الرجل يخطأ خطأً مثل أثم إثماً فهذا هو المصدر وخطأ اسم منه، وقال بعض العلماء خطئ معناه واقع الذنب عامداً، ومنه قوله تعالى: {لا يأكله إلا الخاطئون} [الحاقة: 37]، وأخطأ واقع الذنب عن غير تعمد، ومنه قوله تعالى: {إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، وقال أبو علي الفارسي: وقد يقع هذا موضع هذا، وهذا موضع هذا، فأخطأ بمعنى تعمد في قول الشاعر: [الوافر] وخطئ بمعنى لم يتعمد في قول الآخر: [الكامل] وقد روي عن ابن عامر {خَطأً} بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة، وقرأ ابن كثير {خِطَاء} بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة، وهي قراءة الأعرج بخلاف، وطلحة وشبل والأعمش وعيسى وخالد بن إياس وقتادة والحسن بخلاف عنه، قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً. قال أبو علي الفارسي: هي مصدر من خاطأ يخاطئ وإن كنا لم نجد خاطَأ ولا كنا وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه، فمنه قول الشاعر: [المتقارب] وقول الآخر في صفة كماة: [الطويل] فكأن هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل، وقرأ الحسن فيما روي عنه {خَطَاء} بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة، وهو غلط غير جائز وليس كما قال أبو حاتم، قال أبو الفتح: الخطاء من اخْطَأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم يعني المصدر، وقرأ الحسن بخلاف {خَطاً} بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز، وقرأ أبو رجاء والزهري {خِطاً} بكسر الخاء وفتح الطاء كالتي قبلها، وهاتان مخففتان من خطأ وخطاء، وقوله: {ولا تقربوا الزنى} تحريم.و{الزنى} يمد ويقصر فمن قصره الآية، وهي لغة جميع كتاب الله، ومن مده قول الفرزدق: [الطويل] ويروى أبا خالد، و{الفاحشة} ما يستتر به من المعاصي لقبحه، و{سبيلا} نصب على التمييز، التقدير وساء سبيله سبيلاً، أي لأنه يؤدي إلى النار، وقوله: {ولا تقتلوا} وما قبله من الأفعال جزم بالنهي، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا} [الإسراء: 23] والأول أصوب وأبرع للمعنى، والألف واللام التي في {النفس} هي للجنس، و{الحق} الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله: «لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال، كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى».قال القاضي أبو محمد: وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها، فمنها قطع الطريق، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة، ومن ذلك الزندقة، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية، وقوله تعالى: {مظلوماً} نصب على الحال، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة، والولي القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء، ولهن ذلك عند أخرى، والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو، قال ابن عباس والضحاك. وقال قتادة: السلطان القود، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم فلا يسرف بالياء، وهي قراءة الجمهور، أي الولي لا يتعدى أمر الله، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل، أو يقتل اثنين بواحد، وغير وذلك من وجوه التعدي، وهذا كله كانت العرب تفعله، فلذلك وقع التحذير منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة، رجل قتل غير قاتل وليه، أو قتل بدحل الجاهلية، أو قتل في حرم الله»، وقالت فرقة: المراد بقوله: {فلا يسرف} القاتل الذي يتضمنه الكلام، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {فلا تسرف في القتل} بالتاء من فوق، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة، قال الطبري: على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده، أي فلا تقتلوا غير القاتل.قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية، {فلا يسرفُ} بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي، والمراد هذا التأويل فقط.قال القاضي أبو محمد: وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبي بن كعب: {فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً}، والضمير في قوله: {إنه} عائد على الولي، وقيل على المقتول، وهو عندي أرجح الأقوال، لأنه المظلوم، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام: «ونصر المظلوم وإبرار القسم»، وكقوله «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، إلى كثير من الأمثلة: وقيل على القتل، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر، وهذا ضعيف بعيد المقصد، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية.
|